الأصداء العالمية للثورة المصرية!
تعد ثورة 25 يناير التي أشعلت أوارها مجموعات من شباب مصر الناهض، والتي بدأت بالاعتصام في ميدان التحرير، وأنجزت مطلبها الرئيسي في إسقاط النظام بعد قرار تخلي مبارك عن سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثورة فريدة في التاريخ، كما أجمع على ذلك عشرات المحللين السياسيين من مختلف أنحاء العالم. فهي ثورة بلا قائد، وقد انضمت إلى صفوفها على الفور جماهير غفيرة بلا قيادة.
وسرعان ما انضم عشرات الآلاف إلى الاعتصام المفتوح، وتلته اعتصامات شتى في مختلف مدن البلاد.
هي ثورة بلا قائد لأن الأجيال الجديدة من الشباب الذين يجيدون التعامل مع شبكة الإنترنت، يؤمنون بقيم المساواة ويكرهون ادعاءات الزعامة، لأن الشبكة بحكم طبيعة تفاعلاتها بلا قائد، وتسودها قيم حرية التفكير وحرية التعبير.
وتتميز أجيال "الفيس بوك" بانفتاحها على العالم، وخصوصاً أنها تعيش في عصر العولمة، وقد استطاعت الإنترنت أن تخلق مجتمعاً شبكيّاً تتم فيه ملايين التفاعلات يوميّاً، ويتم فيه نقل الأحداث ساعة وقوعها في الزمن الواقعي Real Time، بالإضافة إلى نقل الصور التي غالباً ما يكون تأثيرها أضعاف تأثير الكلمة المكتوبة.
إننا نعيش في عصر ثقافة الصورة، ونحيا في عصر الإنترنت، الذي ساعد على تخليق وعي كوني عالمي مضاد للقهر والاستبداد والاعتداء على الكرامة الإنسانية. ومن هنا جاءت الأصداء العالمية الكبرى للثورة الشعبية المصرية التي أطلق شرارتها جيل من الشباب الوطني المصري، الذين حصلوا على تعليم متقدم، وأتقنوا التخاطب عبر شبكة الإنترنت. وينبغي أن نقف طويلاً أمام خطاب "أوباما" الذي أعقب تنحي مبارك عن السلطة، مما سجل انتصاراً حاسماً للثورة المصرية.
فهذا الخطاب يتضمن ليس مجرد تحية للثورة، ولكن -أبعد من ذلك- يتضمن تحليلاً ثقافيّاً عميقاً لها، ويضعها في صدارة الثورات العالمية.
وقد بدأ "أوباما" خطابه (ترجمة المصري اليوم في 13 فبراير 2011) بعبارة تستحق أن تحلل تحليلاً عميقاً، حيث قال: "هناك لحظات نادرة في حياتنا نتمكن فيها من أن نشاهد التاريخ أثناء صياغته. وهذه إحدى هذه اللحظات، فالناس في مصر تحدثوا، وصوتهم سمع، ومصر لن تكون أبداً كما كانت".
استطاع أوباما أن يلتقط دلالة الثورة المصرية التي انطلقت وتفجرت وتطورت تحت بصر العالم كله بفضل الثورة الاتصالية الكبرى. وفي ثلاث عبارات قاطعة لخص أوباما المشهد الثوري، "الناس في مصر تحدثوا"، "وصوتهم سمع"، "ومصر لن تكون أبداً كما كانت".
نعم تحدث الناس في مصر مطالبين أولاً بالحرية، وثانيّاً باحترام الكرامة الإنسانية، وثالثاً بالعدالة الاجتماعية. ولم تكن ثورة جياع، ولا مظاهرات مطلبية تنادي بالحصول على الحقوق الاقتصادية المهدورة، ولكنها في المقام الأول كانت ضربة مؤثرة موجهة ضد النظام السلطوي، الذي احتكر الفضاء السياسي وقمع كل المبادرات الاجتماعية والفردية، وأقام مجالس نيابية مزورة مدعيّاً أنها تعبر عن الناس.
نعم تحدث المصريون، ولكن أهم من ذلك أن النظام السياسي القمعي سمع الرسالة وفهمها، وتحت ضغط زئير الجماهير وهتافاتها الثورية قدم مجموعة من التنازلات. غير أن الجماهير التي رفعت شعارها الأساسي وهو "الشعب يريد إسقاط النظام"، أدركت أن هذه تغييرات مهما تكن أهميتها فهي ثانوية، لأن النظام السلطوي ما زال راسخاً. ولذلك ضغطت أكثر وطالبت بالمزيد، وتراجع قادة النظام وصدر قرار بإقالة أعضاء المكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي بما في ذلك جمال مبارك أمين لجنة السياسات، التي هيمنت على توجهات النظام في مصر في العقد الأخير. غير أن الجماهير أصرت على أن هدفها الرئيسي هو إسقاط النظام، وتنحي رئيس الجمهورية عن السلطة. وبعد مراوغات متعددة اضطر الرئيس إلى التنحي نهائيّاً عن السلطة، تحت ضغط هتافات الجماهير المليونية.
وإذا كان "أوباما" في افتتاحية خطابه قد أشار إلى أن المصريين قد تحدثوا وأن صوتهم قد سمع وأن مصر تغيرت إلى الأبد، فقد كان واعيّاً بأن التحول قد بدأ بانتصار الثورة، غير أن اليوم التالي للثورة -إن صح التعبير- سيكون مشحوناً بالمصاعب والمخاطر. وهذه حقيقة. وذلك لأن اليوم التالي للثورة سيطرح أسئلة بالغة الأهمية تتعلق أولاً باستكمال هدم قلعة السلطوية الراسخة في المجتمع المصري، ليس على المستوى السياسي فقط، ولكن أيضاً على المستوى الاجتماعي والثقافي.
لقد بنيت تحت بصر نظام مبارك وتحت رعايته المباشرة حواجز طبقية منيعة بين قلة من الأغنياء المترفين، وغالبية من أعضاء الطبقات المتوسطة والفقيرة. وانعكست هذه الحواجز في تشييد العشرات من المنتجعات الفاخرة التي تباع الوحدة السكنية فيها بعشرات الملايين من الجنيهات، وأحيطت بالأسوار حتى لا يقترب منها "الدهماء"، في الوقت الذي يعيش فيه ملايين المصريين في عشوائيات يسودها الفقر والبؤس.
هناك إذن مهمة تصحيح انحرافات البناء الاجتماعي المصري، ولا ننسى في هذا المقام اقتلاع جذور الفكر الديني المتطرف، الذي أدى إلى فتن طائفية خطيرة قضت عليها ثورة 25 يناير في ميدان التحرير قضاء مبرماً، حيث كان يتلى قداس الأحد وتصلى صلاة الغائب، ويشترك الأقباط والمسلمون في الصلاة على أرواح شهداء الثورة.
لقد شهد ميدان التحرير ظواهر اجتماعية وثقافية كشفت عن المعدن الأصيل للشعب المصري، تمثلت في التكافل الاجتماعي والمشاعر الإنسانية الفياضة، والإحساس العارم بالأخوة في الوطن، ولم يكن هذا غريباً لأن المتظاهرين تعرضوا معاً لقمع الشرطة، التي لم تفرق رصاصاتها المطاطية بين مصري وآخر.
لقد أشار "أوباماً" بذكاء إلى إبداع الجماهير المصرية وإلى براعتها في إدارة مجرياته، مما يعطي الأمل بأن تخلق مصر واقعاً جديداً يجعل هذا الجيل -بعبارة أوباما- يحلق عاليّاً، مما سيجعل مصر تتحمل مسؤوليتها ليس إقليميّاً فقط -كما قال- ولكن عالميّاً أيضاً.
ويبدو أن "أوباما" تأمل طويلاً في مشاهد الثورة المصرية. ولفتت نظره الأمهات اللواتي كن يحملن أطفالهن على أكتافهن، والوحدة الكاملة بين المسلمين والأقباط، وإحساس كل مصري بقيمته مما يشير إلى ثورة الكرامة الإنسانية.
وانظر أيها القارئ إلى عبارة أوباما التالية "المصريون ألهمونا وعلمونا أن الفكرة القائلة إن العدالة لا تتم إلا بالعنف هي محض كذب، ففي مصر كانت قوة تغيير أخلاقية غير عنيفة، غير إرهابية، تسعى لتغيير مجرى التاريخ بوسائل سلمية".
ويحاول "أوباما" الربط بين ثورة الحرية المصرية والثورات العالمية السابقة بقوله على رغم صوتها المصري إلا أنها تذكر العالم بأصداء ثورية سابقة أهمها ثورة الألمان على سور برلين، وثورة غاندي الذي قاد شعبه إلى طريق العدالة.
وعنى "أوباما" بأن يترجم كلمة التحرير إلى مرادفتها بالإنجليزية Liberation لأنها ذات دلالات بالغة الأهمية في التراث الثوري الإنساني، لأنها تشير إلى حركات التحرير التي خاضتها الشعوب المستعمرة والمقهورة.
وينهي "أوباما" خطابه التاريخي بعبارة ذات دلالة حين يقول "ستظل كلمة التحرير تذكر المصريين بما فعلوه وبما ناضلوا من أجله وكيف غيروا بلدهم، وبتغييرهم لبلدهم غيروا العالم أيضاً".
نعم لقد غيرت ثورة 25 يناير العالم، وأصبحت علامة ورمزاً على صعود موجات الوعي الكوني التحرري العالمي!