ثورتا مصر وإندونيسيا... أوجه التشابه والاختلاف
شبه البعض سقوط نظام مبارك في مصر بسقوط حائط برلين. وآخرون شبهوه بسقوط أنظمة دول الستار الحديدي في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات. لكننا سنقارن ما حدث مؤخراً في مصر بما حدث عام 1998 في إندونيسيا، خصوصاً أن هناك ثمة أوجه شبه وأوجه اختلاف ما بين الثورتين المصرية والإندونيسية، ونظامي الرئيسين السابقين مبارك وسوهارتو.
وبالمثل فلولا الانقلاب الشيوعي المزعوم في إندونيسيا في 1965، وما رافقه من مقتل كبار جنرالات الجيش، وما تلاه من شائعات حول تورط رئيس البلاد نفسه فيه، لما أبعد "سوكارنو" عن سدة الرئاسة لصالح ضابط مغمور من ذوي المؤهلات العلمية والعسكرية المتواضعة هو "سوهارتو"، الذي منح نفسه رتبة "جنرال"، وأمسك بزمام الأمور بقبضة حديدية لأكثر من ثلاثة عقود متواصلة.
من ناحية أخرى، مثل مبدأ التحالف القوي مع واشنطن ودول الغرب عموماً، والتماهي مع استراتيجياتها الدولية والإقليمية حجر الزاوية في سياسات جاكرتا والقاهرة الخارجية في ظل عهدي سوهارتو ومبارك، بل إن هذا التحالف هو ما شجع الأول على غزو تيمور الشرقية وضمها بالقوة لإندونيسيا، ورتب للثاني القيام بلعب دور إقليمي فعال في الشرق الأوسط.
وإذا كان يحسب لمبارك أنه نفض يديه من سياسات المغامرات والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الشقيقة لمصر على نحو خالف به ما كان سائداً في عهد عبدالناصر تارة تحت شعار مقاومة الإمبريالية، وتارة أخرى تحت شعار إسقاط الأنظمة العربية الرجعية، وأرسى سياسات داخلية تنموية حسنت نسبياً من موقع مصر الاقتصادي على الخريطة العالمية، وأمنت للبلاد استقراراً طويلًا، ومنحتها بنية تحتية جيدة إلى حد ما، فإنه يحسب لسوهارتو أنه تخلى عما كان سائداً زمن سلفه من سياسات المماحكة مع جارتيه الماليزية والسنغافورية، مركزاً جهوده على التنمية الداخلية التي وضعت إندونيسيا في إحدى الفترات في مصاف دول النمور الآسيوية. لكن على العكس من مبارك، الذي اقترنت سياساته تلك بفسحة من حرية القول والتعبير وتكوين التنظيمات السياسية والأهلية لم يعرفها المصريون منذ سقوط النظام الملكي، أخرس سوهارتو كل صوت منتقد لنظامه أو حزبه أو عائلته أو بطانته، ووضع أصحابه في غياهب السجون.
وهكذا تمثل الاختلاف الجوهري ما بين مبارك وسوهارتو في أن الأول لم يتعامل قط بقسوة وبطش مع خصومه في الداخل أو الخارج من أفراد أو دول، بمن فيهم الجهات التي كانت وراء حادثة اغتياله الفاشلة في أديس أبابا، وبعبارة أخرى لم يكن مبارك قط دموياً كصدام أو النميري أو زعماء عالمثالثيين آخرين في تعامله مع خصومه السياسيين، بينما كان سوهارتو – رغم بشاشته ووجهه الطفولي – شرساً وعدوانياً وميالًا إلى الاقتصاص العنيف من خصومه، بدليل مسؤوليته عن مقتل نحو نصف مليون إندونيسي شيوعي ونصف مليون آخر من أبناء تيمور الشرقية.
إن الثورة التي قادها الإندونيسيون ضد ديكتاتورية وعنجهية سوهارتو كانت بقيادة الشباب من طلبة الجامعات ومن في حكمهم من قادة المجتمع المدني غير المسيسين الذين استلهموا الكثير من مفردات وأساليب ثورة "قوة الشعب" الفلبينية ضد ديكتاتورية "فرديناند ماركوس"، مستخدمين كل المتاح من وسائل الاتصالات الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي. وهذا هو نفسه الذي حدث في مصر. فالشباب هم الذين قادوا الثورة مستلهمين تجربة "ثورة الياسمين" التونسية، ومعتمدين على وسائط الاتصال الجماهيري الحديثة. وهناك متشابه ومشترك آخر، لابد من الإشارة إليه في هذا السياق هو دور الجيشين المصري والإندونيسي اللذين انحازا إلى الجماهير المتطلعة إلى التغيير، ولعبا دور الحامي لها، غير عابئين بما قدم لهما من إغراءات أو ما مورس ضدهما من تهديدات من قبل رموز الحزب الوطني الحاكم في مصر، ونظيره الإندونيسي ممثلاً في حزب "غولكار".
وأخيراً نأتي إلى العامل المحوري المشترك الذي أدى إلى سقوط نظامي مبارك وسوهارتو، وهو الفساد، وترهل القيادات، وعدم القدرة على تقديم المبادرات الخلاقة والوجوه القيادية الجديدة حسنة السمعة، فسوهارتو ظل يحكم لعقود طويلة، ويجدد لنفسه الفترة تلو الأخرى بمباركة الحزب الذي أسسه وترأسه بنفسه وأدخل فيه مجموعة كبيرة من رجال الأعمال الشرهين الذين ظلوا يزورون الانتخابات البرلمانية ويرهبون منافسيهم كي يضمنوا الفوز والنجاة من المحاسبة. وسوهارتو هو الذي أطلق أيادي ولديه وبناته الثلاث وأصهاره وصديقه المقرب "بوب حسن" للاستحواذ على كل الصفقات والمشاريع في مجالات الإعلام المرئي والاتصالات والطيران والنفط والتعدين والإنشاءات والتصدير والغابات حتى صار كل واحد منهم يجلس على ثروات خيالية في بلد جل سكانه يعيشون تحت خط الفقر.
ورغم أنه من الظلم مقارنة نظام مبارك بنظام سوهارتو في هذا الشق تحديداً، فإنه مما لم يعد سراً أن ما عجل بسقوط الأول هو الفساد الذي لازم رموز الحزب الوطني الحاكم وأنصاره من وزراء وقياديين ورجال أعمال. فأساؤوا بذلك إلى النظام وشوهوا صورة رأسه أمام الجماهير التي كانت إلى وقت قريب تكن له الحب والاحترام لدوره فيا نتصار أكتوبر المجيد.
الشيء الآخر هو أن كلا الزعيمين حاولا في أيامهما الأخيرة تقديم التنازلات على أمل الاستمرار في الحكم، مذكرين الجماهير بأدوارهما السابقة لجهة حماية البلاد من الأخطار الخارجية. غير أن صوت الجماهير وطموحاتها كانت أقوى من أن تـُطمس.
كل ما نتمناه الآن هو ألا تصاب مصر بما أصيبت به أندونيسيا بعيد رحيل سوهارتو من فوضى واختلال أمني ولا استقرار طويل.