أعرف أن الهموم صارت تلالاً متلتلة على أكتاف الشعب وأيضاً على أكتاف النظام، وأعرف أن بكرة الخيط بلغت من التعقيد بحيث لم نعد ندرى من أين نبدأ ولا أين ننتهى. لكننى أعرف فى الوقت نفسه أن شيئاً لن ينتقل أبداً من مساحة الأمنيات إلى مساحة الواقع إن لم يتوافر شرطان: الإرادة والقدرة.
أما القدرة فالحكم عليها لدى الخبراء والمختصين، كل فى مجاله، وإن كان ينبغى علينا هنا أن نضيف أن المصرى قادر دائماً كلما توافر الشرط الأول على الإتيان بما قد يقترب من المعجزات فى نظر كثيرين، ولنا هنا فى معجزة العبور مثال ملهم. وهو مثال إن اختلف فى الحجم لا يختلف كثيراً فى النوع عن القدرة المذهلة للمصريين على عبور من نوع آخر يتمثل فى التوجه كل يوم إلى أعمالهم والعودة مرة أخرى إلى منازلهم دون أن يفقدوا أحد أطرافهم.
هى قدرة مذهلة أمام حقيقة فاجرة تقول، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، إن 110 آلاف مصرى لقوا حتفهم فى حوادث طرق فى العشرين سنة الواقعة بين عام 1990 وعام 2010، وأن عام 2010 وحده شهد مصرع 8500 وإصابة 35 ألفاً فى 125 ألف حادثة، أى بواقع حوالى 23 قتيلاً و100 مصاب كل يوم. وبينما يتمحور المعدل العالمى لعدد القتلى فى كل ألف كيلومتر حول الرقم 20 فإنه يقفز بصورة مجنونة فى مصر إلى الرقم 222، أى أن المعدل لدينا يزيد على أحد عشر ضعف المعدل العالمى. هذه الأرقام والمعدلات تلف وجه مصر بالدم وبالطين وبالموت وبالعار فى آنٍ معاً، وتقفز بها كى تستحق بجدارة لقب »أخطر بلد على الطريق فى العالم«.
أزعم أن هذه فى حد ذاتها كبرى مشاكل مصر وأكثرها استحقاقاً للتصدى قبل غيرها. كلما أعدنا النظر فى بكرة الخيط يرتد إلينا النظر وقد أيقن وقوعها فى مركز المأساة. من التنمية إلى التعليم إلى الصحة إلى الاستثمار إلى السياحة إلى التجارة إلى الصناعة إلى الأمن إلى الحياة الاجتماعية إلى مجرد البقاء على قيد الحياة. كلما شددت خيطاً من هذه الخيوط اكتشفت أنه مرتبط بخيط الطرق. حتى هؤلاء منا الذين يفلحون فى العودة إلى منازلهم دون خدش يعودون إليها بمجموعة متنوعة من الأمراض النفسية والذهنية.
وأزعم أيضاً أن هذه المأساة فى كثير من جوانبها ليست مأساة اضطرارية، وإنما يمكن تفادى الشق الأعظم من تأثيرها إن توافر الشرط الأول المشار إليه سلفاً: الإرادة. هى مسؤولية مشتركة بين الشعب والحكومة، لكن من غير المنطقى أن تتوقع الحكومة من الشعب أن يلقى بالقمامة فى سلة القمامة إذا لم تكن هناك أصلاً سلة للقمامة، ولا أن يتوقف مواطن عن أن يعبر الطريق فجأة كما تنشق الأرض عن بقرة إذا لم يكن هناك معبر آدمى للمشاة.
من هنا، بينما تقترب الأرواح من الحلاقيم لأسباب مختلفة، سيكون من مصلحة الحكومة أن تبدأ بالتصدى لآفتين تتعلقان بسلامة الطرق: الجهل والفساد. ولهذين حديث متصل.