التغيير ...حاجة وتقليد !

لتغيير ...حاجة وتقليد


قبل عشرة أيام، وما كان مبارك قد استقال بعد، طلب رئيس حكومته من المتظاهرين والمعتصمين بميدان التحرير، أنْ لا يقلّدوا النموذج التونسي بحذافيره. وكان قصده أنّ التونسيين رفضوا الخروج من الشارع قبل استقالة الرئيس، وأنّ الشباب المصريين يطالبون مبارك بالأمر نفسه. وقد استقال مبارك بعد بن علي، وصار هذا المطلب (أي استقالة الرئيس) تقليداً في سائر التحركات الشعبية العربية من ليبيا وإلى اليمن والجزائر. فهل هناك حاجة إليه بالفعل أم أنّ الأمر لا يتعدى التقليد الشبابي الذي اشترعه التونسيّون والمصريون؟
لكي لا يكون في الإجابة شيء من التسرُّع، فلننظر كيف ومتى تكونت السلطات العربية التي كانت قائمة إلى ما قبل أسبوعين أو ثلاثة. لقد تكوّنت في الخمسينيات والستينيات، وتحت وطأة عاملَين اثنين: الخلاص من الاستعمار وذيوله، والاصطفافات في الحرب الباردة. ومن البلدان العربية مَنْ كان بالفعل ما يزال يرزح تحت الاستعمار، ومنها من صار يعاني بعد عام 1948 من صنيعة الاستعمار، أي إسرائيل. ولذا، وتحت ضغوط الحرب الباردة، ما لبثت كلُّ السلطات الجديدة تقريباً أن انحازتْ للاتحاد السوفييتي، لأن الولايات المتحدة خَلَفَت الاستعمار القديم في الهيمنة من جهة، وفي رعاية إسرائيل وحمايتها من جهةٍ ثانية. وقد ظهر ذلك في حربي عام 1967 و1973، ثم في غزو بيروت عام 1982. ورغم التغيرات الطفيفة بالوفاة أو بالانقلاب؛ فإنّ نظامَ الحرب الباردة، والسلطات التي تكونت خلالها هو الذي ظلَّ سائداً، وإنما داخَلَهُ تغييران: أنّ القوى والدول التي كانت تستند إلى الاتحاد السوفييتي في معارضة السياسات الأميركية بالمنطقة، لجأت بالتدريج إلى حضن الولايات المتحدة، ولذلك استطاعت سلطاتها الاستمرار بغضّ النظر عن مدى شرعيتها بالداخل. أمّا التغيير الآخَرُ فيتمثّل في أنّ الإسلاميين الذين كانوا يعملون خلال الحرب الباردة مع الولايات المتحدة ضد الحكام التقدميين العرب، صاروا ضدها منذ التسعينيات وضدّ الجمهوريات التقدمية العربية الوراثية معاً!


لقد كان منتظراً -ومنذ التسعينيات- أنّ يُعادَ تكوينُ السلطات عندنا، كما أُعيد تكوينها في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. إنما الذي حدث في العالم العربي، وفي آسيا الوسطى، أنه نشب صراعٌ عنيفٌ بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية على آسيا الوسطى، فاحتفظت روسيا بقبضتها هناك، ولم يحدث التغيير. أمّا في المشرق العربي فقد تدخلت الولايات المتحدة غازيةً ومُحاصِرةً أولاً، ثم شنّت حربها العالمية على الإرهاب، وغزت العراق ثم أفغانستان. وبذلك ما عادت هناك إرادةٌ شعبيةٌ للتغيير خوفاً على الاستقرار، بل وقف كثيرون منا مع الإسلاميين الذين كانوا يصارعون الولايات المتحدة.
لقد كانت الهجمة الأميركية على أقطارنا السبب الأهمّ لمنع التغيير. إنما ينبغي النظر فيما فعلتْهُ الأنظمة العربيةُ الموروثة في سلوكياتها من الحرب الباردة، لتجديد شرعيتها، غير الإيهام بمخاصمة الولايات المتحدة، أو إيهام الولايات المتحدة بأنها تتطورُ لصالح التحالُف مع الغرب الديمقراطي.
أول التطورات هو الدخول في اقتصاديات السوق، عبر إعادة الهيكلة، وتحرير الاقتصاد، والبيع التدريجي للقطاع العام، ورفع الدعم بالتدريج عن الموادّ الضرورية لعيش المواطنين. وبذلك فقد صارت النزعة التنموية وصفةً شاملةً لتجاوُز كلِّ الأمراض، وللقول للغرب: إنّ الذي يهمكم السوق واقتصادياتها، وها نحن قد دخلنا فيها وبحماس، لكنْ ساعِدونا لتجاوُز الصدمة في السنوات الأولى لدى الطبقات الفقيرة والمعدمة.
وثاني تلك التطورات حفظ الاستقرار، وعدم التعرض للقضايا الكبرى التي تزعج الولايات المتحدة، مثل الهدوء على الجبهة مع إسرائيل، ومثل الالتزام بسياسة منع الانتشار النووي.
وثالث تلك التطورات، وأهمُّها: التشارُكُ بين الولايات المتحدة وسائر الأنظمة الجمهورية العربية في مصارعة الإسلاميين، سواء أكانوا إرهابيين أو غير إرهابيين! لقد قال مبارك ذلك للأميركيين في عام 1994 عندما طالبوهُ بالإصلاح، إذ أخبرهم أنّ أيّ تنازُلٍ يعني استيلاء "الإخوان" على البرلمان فالسلطة، واستمرّ على هذا الفيلم حتى بعد قيام ثورة الشباب قبل شهرٍ تقريباً. والأمر نفسه قاله كُلٌّ من القذافي وبن علي وصالح والأسد، للأميركيين وللأوروبيين. وأقول إنّ هذا التشارُك مع الولايات المتحدة يتناول الجمهوريين العرب فحسْب؛ لأنّ الاميركيين أيام بوش ما تركوا أحداً إلاّ وأخبروه أنّ الأنظمة العربية المحافظة إمّا أنها خاضعة لأجندة الإسلاميين أو أنها عاجزة عن مكافحتهم بفعالية! وبعد قيام ثورتي تونس ومصر، سمع صحفيون كثيرون من سفراء أوروبيين مخاوف حول سيطرة "الإخوان" على الأمور عاجلاً أو آجلاً، لذلك فالأفضلُ هو بقاءُ الحكام الموجودين، وحصول التطور التدريجي!
وإذا كانت هذه التطورات الثلاثة، تُريحُ الغربَ ولا تُزعجُهُ، وهي أُمورٌ لا يختلفُ فيها نظامٌ عن نظام، حتى وإن تكن هناك خصومات وتفاوُتات؛ فما الذي فعلتْهُ تلك الأنظمة لتجديد شرعيتها، بعد أن صارت للشرعية آلياتٌ أُخرى غير الشرعية الثورية بعد انتهاء الحرب الباردة؟
يمكن اعتبار الأيديولوجيا والممارسات التنموية، لتحسين معيشة المواطنين، وإحداث التقدم، سعياً للتقارُب مع الناس. والأنظمة لا تقصّر في الاستشهاد بالصين، والتي حققت تنميةً هائلةً، بدون انفتاحٍ سياسيٍ. والواقع أن هذا تشابُهٌ مع الفارق. فالتنمية الصينيةُ بدأت من تحت وليس من فوق، وفي الصين يسودُ حُكْمُ القانون. أمّا في البلدان العربية فقد كانت التنميةُ من ضمن احتكارات السوق وآلياته، وقامت على رجال الأعمال، والاستثمارات في القطاع السياحي ومُشابهاته. وليس في البلاد العربية ذات المنحى التنموي، بل هناك فسَادٌ واسع يغطّى على المحاسن القليلة متمثلة في معدلات النمو السنوي. ثم إنّ الديكتاتورية ووراثة السلطة ما كانتا شرطاً للاستقرار والتنمية والنهوض. فالحزب الشيوعي الصيني تغير رؤساؤه والمسؤولون فيه عشرات المرات منذ الثمانينيات، بينما لم يتغير أحدٌ من الحكام العرب إلاّ بالموت، وإنْ مات أحدهم يخلُفُهُ ابنُه. وهذه هي المشكلة الرئيسية مع مبارك، فقد بقي في سُدّة الرئاسة أكثر من المعقول لكي يضمن مجيء ابنه من بعده. وما اعتبر بقول معاوية بن أبي سفيان: لولا غرامي بابني يزيد لرأيتُ رُشْدي!
على أنّ الأنظمة العربية الموروثة من الحرب الباردة، ما اكتفت بعدم إجراء التغيير من الرأس؛ بل ما أجرتْهُ أيضاً في جسم النظام، بالانتخابات الحرة والمنتظمة، وبالحكومات المتغيّرة والشفافة. فقد وصل الأمر في بعض البلدان، مثل ليبيا وسوريا وتونس، إلى عدم إجراء انتخابات يمكن تسميتُها كذلك. أما الحكوماتُ فهي خالدة. وفي بعض البلدان الأُخرى، والتي كانت فيها انتخاباتٌ منتظمةٌ؛ فإنّ قوانين الانتخابات كانت تتغير لكي لا ينجح أحدٌ لا يحبه أهل النظام الحاكم!
لقد كنا نخاف على الاستقرار إذا خرج المارد من القُمقُم بعد طول انحباس. وقد تبيَّنَ لنا أنّ الذين مارسوا أعمال العنف والسلْب والنهب بتونس ومصر، هم في الأغلب الأعمّ من رجالات النظام الساقط. وهكذا ما عُدْنا نخشى شبان التغيير على الاستقرار.
وكان الأجانب وبعض العلمانيين الذين لا شِفاءَ لهم ولا منهم، يخشَون الإسلام والإسلاميين على ما قبل ميدان التحرير في البلدان العربية. وقد تبين أنّ هؤلاء ليسوا غيلاناً ولا وحوشاً، كما أنهم لا يمثّلون الأكثرية بين العاملين على التغيير. بل يبلُغُ من "وداعة" الإسلاميين أنّ الأتراك ينصحون أصدقاءهم العرب الآن بالتعاوُن مع "الإخوان" لكي يتجنبوا التغيير في بلدانهم!
لقد صار التغيير في الوطن العربي حاجةً بل ضرورة، لكي لا نبقى استثناءً، ولكي نستعيد إنسانيتَنا وشرعيتَنا باعتبارنا أُناساً ذوي عقلٍ وكرامة، ولسنا هَمَلاً يُقادون، وتُوضَعُ لهم البرامج التي عليهم تنفيذُها أو يكونوا خَوَنةًَ مارقين!